تعرف معازف عن نفسها بأنها ”مجلة إلكترونيّة متخصصة بالمقالات والدراسات والأبحاث والمراجعات التي تعنى بالموسيقى العالميّة والعربية بشكل خاص. أسسها ويحرّرها معن أبو طالب وأحمد الزعتري.” تعكس المواد المنشورة الجهود الجبارة التي تقف وراء هذا المشروع الغني. تحاور ”جدلية“ أسرة ”معازف“ للتعرف على عوالمها.
جدلية: في البداية، لماذا اخترتم "معازف" كاسم لمجلتكم الالكترونية؟
معازف: يطرح اختيار اسم "معازف" إشكاليّة الموسيقى اليوم في العالم العربي. أوّلاً: هي الكلمة التي نسبت إلى الرسول عندما حرّم الموسيقى: "ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحرّ والحرير والخمر والمعازف". من هذه الإشارة إلى الموسيقى كإثم، نحاول النظر إلى جدليّة لغويّة تُسائل موروثاً ثقافيّاً، كاللغة، تم التعامل معه بقدسيّة من دون مناقشته وتحليله. إذ يتم التعامل مع الموروث الثقافي على أنّه آتٍ من منطقة مقدّسة وغيبيّة، مثل نسب الشّعر – أي الإبداع - إلى الجن في وادي عبقر، لذلك نرى أنّه يتم، إلى حد الآن، رفض متجذّر للنّقد والمساءلة العقلانيّة بناءً على هذه الأسس. مجلة "معازف" بهذا المفهوم تتبنّى الموروث الثقافي وتحلّله بعيداً عن المقدّس.
ثانياً، اختيار الاسم آتٍ من موقف نشدّد عليه دائماً، وهو استخدام اللغة العربيّة من دون غربنتها، وبنفس الوقت، من دون التعلّق بامتياز اللغة المجرّد. "معازف" كلمة عربيّة أصيلة تناقض كل ما يبدو أنّه سائد في الحديث عن الموسيقى العربيّة، والذي يتمثّل في استخدام اللغة الإنجليزيّة، أو أسماء وعناوين يسهل لفظها بالإنجليزيّة، وكأن معيار النّجاح هو قدرة العمل على العبور إلى الآخر الغربي، وكأن العربيّة لغة أثريّة يجب أن تغلّف بطبقة حداثيّة. هذا التعامل مرتبط مباشرة بالتفكير، أو اللاتفكير المتعمّد الذي يستخدم امتيازات طبقيّة لاحتكار الثقافة. "معازف" إذن موقف واضح من منظومتي قيم: الإسلاميّة المتشدّدة، والليبراليّة الطبقيّة.
جدلية: هل كنتم تحاولون ملء الفراغ الموجود في المنطقة على هذا الصعيد؟
معازف: لقد وجدنا أن هناك فراغ كبير في الكتابة عن الموسيقى. أكثر ما وجدناه كان إمّا عبارة عن مقالات إخباريّة من نمط البيانات الصحافيّة، وهي لا تتعرّض للعمل الموسيقي بشكل جاد، وإنما تكتفي بالإعلان عنه ومدح العمل والقائمين عليه بغض النظر عن معايير كالجودة والأصالة. الشكل الآخر هو الكتابة عن الموسيقى العربيّة لغير جمهورها، للغرب تحديداً. نرى هذا كثيرا من كتاب أجانب، أو عرب للأسف، الذين يكتبون بطريقة سطحيّة تخلو من أي معرفة بتقاليد الموسيقى العربيّة ومكان الأعمال الجديدة نسبة إلى الموروث الموسيقي العربي. بل أحياناً تُقرأ هذه الأعمال من خلال مقارنتها بالموروث الموسيقى الغربي، وكأن ذلك العربيّ غير موجود، بل يتم اختراعه من منظور اكزوتيكي استشراقي خالص، كالأعمال التي تعتمد على العود وترويجه كآلة شهوانيّة. وقبل كل هذا، إدراكنا لأنّنا نعيش عصر انحطاط كامل غير محصور بالموسيقى فقط، إذ يخضع إنتاجنا الثقافي، كما غيره، إلى تحالفات رأسماليّة واستعماريّة جديدة وطبقيّة تقوم بإيهام الجمهور بما يجب سماعه، من خلال الصحافة والميديا بشكل عام، محاولةً الاستيلاء على التقبّل الشعبي للموسيقى غير المفتعلة. الكتابة بهذه الأشكال تعني المساواة بين الجيّد والرديء، هذا إذا لم يكتب عن الرديء بحماسة أكبر، ذلك لأن الأخير أقل تحدّياً وألطف على الأذن. نحن غير مهتمين بالموسيقى اللطيفة.
جدلية: ما الفارق بين "معازف" وبقية المواقع الالكترونية المتخصصة بالموسيقى في منطقتنا؟
معازف: معظم المواقع تخدم كمصدر للتعرّف على الموسيقى العربيّة من دون التعليق أو تحليل العمل. هو أسلوب غير نقدي وغير تفضيلي يقدّم كل ما هو موجود، وهذا شيء حسن. في "معازف"، نحن نريد دوماً أن نعلّق على العمل وأن نتعامل معه بجديّة. نريد أن يكون الفنان مسؤولاً عن العمل الذي يقدّمه، وأن يكون للمستمع رأي. للمستمع الحق بأن يطالب بأعمال على مستوى معين، وأن لا يقبل بما هب ودب. من ناحية نقديّة، نريد أن نقدم تحليلاً للعمل وقراءة من خلال منظور يربط العمل بمكانه الزمني والتاريخي. بهذا المنهج، نصل إلى القرار الواعي بتفكيك الشخصيّات الموسيقيّة المقدّسة والتي لا تنتقد نهائياً، مثل زياد الرحباني ومرسيل خليفة وغيرهما.
جدلية: كيف تنظرون إلى "الموسيقى الجديدة" في منطقتنا؟ هل تعتبرون أنها تتّبع جميعها مساراً محدداً؟ هل يمكن تصنيف الموسيقى الجديدة كـ"تيار" معيّن، حتى ولو كانت تتمايز في الصنف أو النمط الموسيقيَّين، أم أنّ العنصر الوحيد المشترك بين مختلف الموسيقيين الجدُد هو أنهم يتحدرون من المنطقة نفسها، وأنهم جُدُد على الساحة الموسيقية؟
معازف: بداية، لا نعتقد بأن ثمّة "موسيقى جديدة" و"قديمة". المعيار هنا يبقى دائماً هو الجيّد والرديء. لكن إذا نظرنا من الزاوية التاريخيّة، ثمّة أعمال موسيقيّة جديدة تحاول أن تحاكي عصرنا إمّا بالتواصل مع الموروث الثقافي والتعامل معه بدلاً من معاداته، أو القطيعة التامّة مع هذا الموروث والاتّجاه إلى خلق موجات موسيقيّة تحمل بذور فشلها. إذا كانت الإشارة في السؤال إلى ما يسمّى بالموسيقى "البديلة"، فثمّة توجّه في "معازف" إلى نقدها وتحليلها اعتماداً على معايير الأصالة. نجد للأسف أن الكثير من هذه "الموسيقى البديلة" تفشل في تلبيتها. إذا نظرنا إلى تطوّر الموسيقى العربيّة على مرّ التاريخ، نجد أن ما بقي منها وكان مؤثّراً امتلك عنصرين: المراكمة على الموروث الموسيقي ومساءلته، إضافة إلى رؤية معاصرة للتطوّر الاجتماعي: منبع التغيّر والتجديد؟ في الفنون. فموسيقى عصر النهضة العربيّة مثلاً في منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين تحرّرت موسيقاها الشعبيّة في الكباريهات والمقاهي من استغباء الجمهور الأوسع بالاستسهال، وتحرّرت في نفس الوقت موسيقى القصور من الرّصانة الفائضة عندما خرجت الموسيقى إلى المسارح العامّة، وأصبح الموسيقيون يتعرّضون للآراء والأذواق النقديّة المختلفة. نحن ندرك بأنّنا نعيش في عالم مختلف الآن، لكن طبقيّة الموسيقى البديلة التي جاءت ردّاً على الموسيقى الشعبيّة، تحديداً في مصر، ساهمت وتساهم في الانفصال عن باقي الطبقات المجتمعيّة.
جدلية: لماذا تركزون على النقد الموسيقي والنظرية الموسيقية. ولماذا الآن؟
معازف: جاءت الحاجة إلى تأسيس "معازف" من تجارب مهنيّة في التعامل مع النقد الموسيقي والنظرية الموسيقيّة. إذ أتينا من تجارب موسيقيّة وصحافيّة ونظريّة نقديّة. موسيقيّاً: لم تتبلور التجارب الموسيقيّة الراهنة بالترافق مع منظومة نقديّة جادة. ونظريّاً: نفتقد إلى نماذج نقديّة عربيّة لتحليل الظواهر الموسيقيّة، وصحافيّاً: تحتاج الكتابة عن الموسيقى العربيّة إلى مخزون معرفي موثّق بحساسيّة تجاه التغيّرات في منطقتنا.
ربّما لا ندّعي بأنّنا نقدّم نظريّات نقديّة موسيقيّة، لكننا نحاول أن نتعاون مع أكبر عدد من الكتّاب والباحثين والصحافيين المهتمين بالنقد الموسيقي لتوثيق الظواهر الموسيقيّة العربيّة بالتحليل أولاً، ومن ثم إخضاع هذا النقد نفسه للنقاش عبر المرحلة القادمة التي سنقوم فيها بإقامة سلسلة محاضرات ونقاشات في العواصم العربيّة وبقيادة عدد من المتخصّصين. ربّما يؤسّس هذا إلى نشوء نظريّات موسيقيّة عربيّة في المستقبل. لماذا الآن؟ حفّزتنا الانتفاضات العربيّة، والإنتاج الثقافي الذي رافقها، لتنفيذ المشروع الذي استغرق التحضير له ثلاث سنوات.
جدلية: برأيكم، كيف يرتبط النقد الثقافي بالسياسات الحالية في المنطقة العربية؟
معازف: يرتبط النّقد عامّة (الموسيقي والفني والأدبي) ارتباطاً وثيقاً بحريّة التعبير والحريّة الفكريّة. إذا نظرنا إلى تاريخ العالم العربي المعاصر، نجد أن انهيار النقد بدأ مع قدوم جيل القادة الذي ظهر قبل ٣٠-٤٠ عاماً. في ظل الأنظمة الدكتاتوريّة، حيث تتم الموافقة على كل عمل من السلطات، وحتى الإيعاز بالأعمال، ممّا يجعل دور الناقد زائداً. فعند مرور الأعمال الموسيقيّة في غربال الرقابة، يتم تصفيتها من أي مضمون حقيقي (وليس بالضرورية أن يكون ثوريّاً بالمعنى السياسي للكلمة) وبالتالي يجد الناقد أن ما أمامه من أعمال هي فقط مجموعة من الأعمال المنتهكة التي تخلو من أي تجديد أو محتوى يمكن التعامل معه نقديّاً.
في ألمانيا النازيّة، تم استبدال مسمى النقد الفني بـ"تقدير الفن". إذن، في ظل هذه البيئات المكبوتة، يصبح دور الناقد هو المدح والثناء على ما سمحت به السلطات، ويصبح كل عمل، بغض النظر عن قيمته الفنية، إنجازاً. ما زلنا نرى هذا في الوقت الراهن في الصحافة العربيّة والغربيّة. إذ ما يزال التعامل مع أي عمل موسيقي عربي على أنه انجاز بحد ذاته، بغض النظر عن قيمته الفنية. في ظل الثورات العربيّة حدث هناك انفجار ثقافي وكم كبير من الإنتاج. الصحافة التقليديّة والقنوات الإعلاميّة المعتادة أثبتت عدم قدرتها على التعامل مع هذا المنتوج الموسيقي الذي يتخذ أشكالاً جديدة، والذي يتطرّق لقضايا لم تعتد هذه الصحافات التعامل معها. هذا عدا عن الفارق العمري والثقافي بين كوادر هذه الصحافات والمشهد الموسيقي الجديد في العالم العربي.
جدلية: ما هي مشاريعكم الحالية والمستقبلية كجمعية و/أو موقع إلكتروني؟ هل تفكرون يوماً بتحويل موقعكم إلى إذاعة إلكترونية؟
هناك خطط لبدء إذاعة إلكترونيّة تابعة للمجلة. هناك أيضاً خطة لإصدار مطبوعة تجمع مقالات نشرت في "معازف".
جدلية: هل تتواصلون مع المطبوعات الأجنبية (الورقية و/أو الالكترونية) المتخصصة بالموسيقى الصادرة في أوروبا وأميركا (مثل ديابازون أو كلاسيكا)، علّكم تبرمون اتفاقاً لتبادل المقالات ولإغناء الشق المتعلق بالموسيقى الشرقية عندهم، والغربية عندكم؟
معازف: لا. نحن معنيون أكثر بخلق حوار عربي-عربي يتعامل مع المخزون الثقافي العربي المشترك. باعتقادنا أن هناك قدراً كافياً من تغطية الموسيقى الغربيّة عالميّاً وعربيّاً. بالنسبة للصحافة الغربيّة، إذا كانوا فعلاً مهتمين بالتعرف على موسيقانا، فليتعلموا العربيّة.
جدلية: تقولون في التعريف عن أنفسكم إن "الموسيقى دمويّة وحاسمة ضد المطلق وضد السلطة". هل يُعتبر هذا إعلان من جانبكم أنكم لن تولوا الاهتمام إلا بالظواهر والأسماء الموسيقية الملتزمة خطاً سياسياً معارضاً للسلطات؟
معازف: برأينا أن أي عمل فنّي موسيقي مجدّد ومغاير وأصلي، سواء كان محتواه سياسيّاً أو أبعد ما يكون عن السياسة، مجرد كونه مجدّداً وأصيلاً يعني تلقائياً أنه معارض للسلطات بمختلف أنواعها (سياسيّة، أبويّة، جماليّة، أخلاقيّة). نحن ضد فكرة أن الفنان يجب أن يعالج دوماً قضايا مجتمعيّة أو سياسيّة، أي أن فناناً مصريّاً مثلاً يجب عليه التعرّض للثورة في أعماله. إن كان هذا هاجسه وهو ما يعالجه في أعماله، ممتاز. إن كان هاجسه مختلفاً، ممتاز أيضاً. معاييرنا جماليّة بحتة تعطي أعلى قيمة للتجديد والأصالة.
جدلية: هل تحاولون من خلال بوابتكم الالكترونية كسر نظريّة "نخبوية" الموسيقى، وتبسيط وسيلة إيصالها إلى القراء والمستمعين من دون الوقوع في التسطيح؟
معازف: نعم، هذا ما نريده. ولكنّ هذا لا يكون بتبسيط اللغة والحد من المصطلحات التي يمكن استخدامها. لقد استخدمنا مصطلحات يرى البعض أنّها غير دارجة أو"مفسلفة". تساؤلنا هو، إن توقف الجميع عن استخدام اللغة بهذه الطريقة التي يعتبرها البعض صعبة، ألن يؤدي هذا إلى تفريغ اللغة العربيّة، وإضعاف القدرة على استخدامها لطرح الأفكار. النخبويّة أيضاً تهمة جاهزة تطلق على أي عمل يحاول أن يكون مجدّداً، ويخرج عن النّمط السائد. عادةً ما يدّعي مطلقو تهمة النخبويّة أنّهم بذلك معنيّون بالطبقيّة، بينما هم فعليّاً يستندون إليها. وتصبح النخبويّة حجّة للتمسّك بالطريقة السائدة واللغة السائدة في المنظومة الثقافيّة. الإصرار على تبسيط اللغة هو استمرار لنظرية (شعبك الجاهل) وفيه احتقار وتعالي على القرّاء لا يخدم أحداً إلا جيوش النيوليبراليين والأنظمة التي صنعتهم.
جدلية: هل يقوم عملكم على التطوع بشكل كامل؟ أم أنّ لديكم شركاء مموِّلين مؤمنين بجدوى إنشاء مجلة إلكترونية متخصصة في الموسيقى، خصوصاً العربية منها؟
معازف: نحن متطوّعون. حصلنا على منحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون، ونحن الآن في صدد التقدّم لمنح أخرى.
[ عنوان المجلة الإلكتروني: http://www.ma3azef.com]